سورة المائدة - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً} لما بين تعالى بدليل النقل والعقل انتفاء الإلهية عن عيسى، وكان قد توعدهم ثم استدعاهم للتوبة وطلب الغفران، أنكر عليهم ووبخهم من وجه آخر وهو عجزه وعدم اقتداره على دفع ضرر وجلب نفع، وأنّ مَن كان لا يدفع عن نفسه حريّ أن لا يدفع عنكم. والخطاب للنصارى، نهاهم عن عبادة عيسى وغيره، وأن ما يعبدون من دون الله مساويهم في العجز وعدم القدرة. والمعنى: ما لا يملك لكم إيصال خير ولا نفع. قيل: وعبر بما تنبيهاً على أول أحواله، إذْ مرّت عليه أزمان حالة الحمل لا يوصف بالعقل فيها، ومن هذه صفته فكيف يكون إلهاً، أو لأنها مبهمة كما قال سيبويه. وما: مبهمة تقع على كل شيء، أو أريد به ما عبد من دون الله ممن يعقل، وما لا يعقل. وعبر بما تغليباً لغير العاقل، إذ أكثر ما عبد من دون الله هو ما لا يعقل كالأصنام والأوثان، أو أريد النوع أي: النوع الذي لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً كقوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} أي النوع الطيب، ولما كان إشراكهم بالله تضمن القول والاعتقاد جاء الختم بقوله: {والله هو السميع العليم} أي السميع لأقوالكم، العليم باعتقادكم وما انطوت عليه نياتكم. وفي الإخبار عنه بهاتين الصفتين تهديد ووعيد على ما يقولونه ويعتقدونه، وتضمنت الآية الإنكار عليهم حيث عبدوا من دونه من هو متصف بالعجز عن دفع ضرر أو جلب نفع. قيل: ومن مرّت عليه مدد لا يسمع فيها ولا يعلم، وتركوا القادر على الإطلاق السميع للأصوات العليم بالنيات.
{قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق} ظاهره نداء أهل الكتاب الحاضرين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتناول من جاء بعدهم. ولما سبق القول في أباطيل اليهود وأباطيل النصارى، جمع الفريقان في النهي عن الغلوّ في الدين. وانتصب غير الحق وهو الغلو الباطل، وليس المراد بالدين هنا ما هم عليه، بل المراد الدين الحق الذي جاء به موسى وعيسى. قال الزمخشري: الغلو في الدين غلوان: غلو حق، وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد، وغلو باطل وهو أن يجاوز الحق ويتعداه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعل أهل الأهواء والبدع انتهى. وأهل العدل والتوحيد هم أئمة المعتزلة، وأهل الأهواء والبدع عنده هم أهل السنة، ومن عدا المعتزلة. ومن غلو اليهود إنكار نبوة عيسى، وادعاؤهم فيه أنه الله. ومن غلوّ النصارى ما تقدّم من اعتقاد بعضهم فيه أنه الله، وبعضهم أنه أحد آلهة ثلاثة.
وانتصاب غير هنا على الصفة أي: غلوّاً غير الحق. وأبعد مَن ذهب إلى أنها استثناء متصل، ومن ذهب إلى أنها استثناء ويقدره: لكن الحق فاتبعوه.
{ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل} هؤلاء القوم هم أسلاف اليهود والنصارى ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم كثيراً، ثم عين ما ضلوا عنه وهو السبيل السوي الذي هو وسط في الدين وهو خيرها فلا إفراط ولا تفريط، بل هو سواء معتدل خيار. وقيل: الخطاب للنصارى، وهو ظاهر كلام الزمخشري قال: قد ضلوا من قبل هم أئمتهم في النصرانية كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأضلوا كثيراً ممن شايعهم على التثليث، وضلوا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سواء السبيل حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه. وقال ابن عطية: هذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى، والقوم الذين نهى النصارى عن اتباع أهوائهم والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل، بل هم في الضد بالأقوال، وإنما اجتمعوا في اتباع موضع الهوى. فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج: هذه الطريقة طريقة فلان تمثله بآخر قد اعوج نوعاً من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله. ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديماً، وأضلوا كثيراً من أتباعهم، ثم أكد الأمر بتكرار قوله: وضلوا عن سواء السبيل. وذهب بعض المتأولين إلى أنّ المعنى: يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل أي: ضل أسلافهم، وهم قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم، وأضلوا كثيراً من المنافقين، وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق انتهى. ولا حاجة لإخراج الكلام عن ظاهره من أنه نداء لأهل الكتاب طائفتي: اليهود، والنصارى. وأن قوله: ولا تتبعوا أهواء قوم، هم أسلافهم. فإن الزائغ عن الحق كثيراً ما يعتذر أنه على دين أبيه وطريقته، كما قالوا: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} فنهوا عن اتباع أسلافهم، وكان في تنكير قوم تحقير لهم. وما ذهب إليه الزمخشري تخصيص لعموم من غير داعية إليه. وما ذهب إليه ابن عطية أيضاً تخصيص وتأويل بعيد في قوله: ولا تتبعوا أهواء قوم أن المراد بهم اليهود، وأن المعنى: لا تكونوا على هوى كما كان اليهود على هوى، لأن الظاهر النهي عن اتباع أهواء أولئك القوم. وأبعد من ذهب إلى أنّ الضلال الأول عن الدّين، والثاني عن طريق الجنة.
{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان. لعنوا على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، وعلى عهد محمد في القرآن.
وروى ابن جريج: أنه اقترن بلعنتهم على لسان داود أن مسخوا خنازير، وذلك أن داود مرّ على نفر وهم في بيت فقال: من في البيت؟ قالوا: خنازير على معنى الاحتجاب، قال: اللهم خنازير، فكانوا خنازير. ثم دعا عيسى على من افترى عليه وعلى أمه ولعنهم. وروي عن ابن عباس: لعن على لسان داود أصحاب السبت، وعلى لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة. وقال أكثر المفسرين: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولما كفر أصحاب عيسى بعد المائدة قال عيسى: اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي. وقال الأصم وغيره: بشّر داود وعيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولعنا من كذبه. وقيل: دعوا على من عصاهما ولعناه. وروي أن داود قال: اللهم ليلبسوا اللعنة مثل الرّداء ومثل منطقة الحقوين، اللهم اجعلهم آية ومثالاً لخلقك.
والظاهر من الآية الإخبار عن أسلاف اليهود والنصارى أنهم ملعونون. وبناء الفعل للمفعول يحتمل أن يكون الله تعالى هو اللاعن لهم على لسان داود وعيسى، ويحتمل أن يكونا هما اللاعنان لهم. ولما كانوا يتبجحون بأسلافهم وأنهم أولاد الأنبياء، أخبروا أنّ الكفار منهم ملعونون على لسان أنبيائهم. واللعنة هي الطرد من رحمة الله، ولا تدل الآية على اقتران اللعنة بمسخ. والأفصح أنه إذا فرق منضماً الجزئين اختير الإفراد على لفظ التثنية وعلى لفظ الجمع، فكذلك جاء على لسان مفرداً ولم يأت على لساني داود وعيسى، ولا على ألسنة داود وعيسى. فلو كان المنضمان غير متفرّقين اختير لفظ الجمع على لفظ التثنية وعلى الإفراد نحو قوله: {فقد صغت قلوبكما} والمراد باللسان هنا الجارحة لا اللغة، أي الناطق بلعنتهم هو داود وعيسى.
{ذلك بما عصوا} أي ذلك اللعن كان بسبب عصيانهم، وذكر هذا على سبيل التوكيد، وإلا فقد فهم سبب اللعنة بإسنادها إلى من تعلق به الوصف الدال على العلية، وهو الذين كفروا. كما تقول: رجم الزاني، فيعلم أنّ سببه الزنا. كذلك اللعن سببه الكفر، ولكن أكد بذكره ثانية في قوله: ذلك بما عصوا.
{وكانوا يعتدون} يحتمل أن يكون معطوفاً على عصوا، فيتقدر بالمصدر أي: وبكونهم يعتدون، يتجاوزون الحد في العصيان والكفر، وينتهون إلى أقصى غاياته. ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء، ويقوي هذا ما جاء بعده كالشرح وهو قوله: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ظاهره التفاعل بمعنى الاشتراك أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، وذلك أنهم جمعوا بن فعل المنكر والتجاهر به، وعدم النهي عنه.
والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد ينبغي أن يستتر بها من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر، فإذا فعلت جهاراً وتواطؤاً على عدم الإنكار كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإفشائها وكثرتها. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيراً للمعصية؟ (قلت): من قبل أنّ الله تعالى أمر بالتناهي، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء، لأنّ في التناهي حسماً للفساد. وفي حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قرأ لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل الآية إلى قوله فاسقون ثم قال: والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن به على يد الظالم ولتأطرنه عن الحق اطراً، أو ليضرب الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعنكم كما لعنهم» أخرجه الترمذي. ومعنى لتأطرنه لتردنه. وقيل: التفاعل هنا بمعنى الافتعال يُقال: انتهى عن الأمر وتناهى عنه إذا كف عنه، كما تقول: تجاوزوا واجتوزوا. والمعنى: كانوا لا يمتنعون عن منكر. وظاهر المنكر أنه غير معين، فيصلح إطلاقه على أيّ منكر فعلوه. وقيل: صيد السمك يوم السبت. وقيل: أخذ الرشا في الحكم. وقيل: أكل الربا وأثمان الشحوم. ولا يصح التناهي عما فعل، فإما أن يكون المعنى أرادوا فعله كما ترى آلات أمارات الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فينكر، وإما أن يكون على حذف مضاف أي: معاودة منكر أو مثل منكر.
{لبئس ما كانوا يفعلون} ذم لما صدر عنهم من فعل المنكر وعدم تناهيهم عنه. وقال الزمخشري: تعجيب من سوء فعلهم، مؤكداً لذلك بالقسم، فيا حسرتا على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المنكر وقلة عنايتهم به كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كتاب الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب انتهى. وقال حذّاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليماً من المعصية، بل ينهي العصاة بعضهم بعضاً. وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهي بعضهم بعضاً، واستدل بهذه الآية لأن قوله: لا يتناهون وفعلوه، يقتضي اشتراكهم في الفعل، وذمهم على ترك التناهي. وفي الحديث: «لا يزال العذاب مكفوف عن العباد ما استتروا بمعاصي الله، فإذا أعلنوها فلم ينكروها استحقوا عقاب الله تعالى». {ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا} الظاهر عود الضمير في: منهم، على بني إسرائيل فقال مقاتل: كثيراً منهم هو من كان بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم يتولون الكفار وعبدة الأوثان، والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه الذين استجلبوا المشركين على الرسول، وعلى هذا يكون ترى بصرية، ويحتمل أن تكون من رؤية القلب، فيحتمل أن يراد أسلافهم أي: ترى الآن إذ أخبرناك.
وقيل: كثيراً منهم منافقو أهل الكتاب كانوا يتولون المشركين. وقيل: هو كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل عني به المنافقون تولوا اليهود روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
{لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم} تقدّم الكلام على إعراب ما قال الزمخشري في قوله: أن سخط الله، أنه هو المخصوص بالذم ومحله الرفع كأنه قيل: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم، والمعنى موجب سخط الله عليهم انتهى. ولا يصح هذا الإعراب إلا على مذهب الفرّاء، والفارسي في أنّ ما موصولة، أو على مذهب من جعل في بئس ضميراً، وجعل ما تمييزاً بمعنى شيئاً، وقدّمت صفة التمييز. وأما على مذهب سيبويه فلا يستوي ذلك، لأن ما عنده اسم تام معرفة بمعنى الشيء، والجملة بعده صفة للمخصوص المحذوف، والتقدير: لبئس الشيء قدّمت لهم أنفسهم، فيكون على هذا أن سخط الله في موضع رفع بدل من ما انتهى. ولا يصح هذا سواء كانت موصولة، أم تامة، لأن البدل يحل محل المبدل منه، وأن سخط لا يجوز أن يكون فاعلاً لبئس، لأن فاعل نعم وبئس لا يكون أن والفعل. وقيل: إن سخط في موضع نصب بدلاً من الضمير المحذوف في قدّمت، أي: قدّمته كما تقول: الذي ضربت زيداً أخوك تريد ضربته زيداً. وقيل: على إسقاط اللام أي: لأن سخط.
{وفي العذاب هم خالدون} لما ذكر ما قدّموا إلى الآخرة زاداً، وذمّه بأبلغ الذم، ذكر ما صاروا إليه وهو العذاب وأنهم خالدون فيه، وأنه ثمرة سخط الله، كما أن السخط ثمرة العصيان.
{ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء} إن كان المراد بقوله: {ترى كثيراً منهم} أسلافهم، فالنبي داود وعيسى أو معاصري الرسول، فالنبي هو محمد صلى الله عليه وسلم، والذين كفروا عبدة الأوثان. والمعنى: لو كانوا يؤمنون إيماناً خالصاً غير نفاق، إذ موالاة الكفار دليل على النفاق. والظاهر في ضمير كانوا وضمير الفاعل في ما اتخذوهم أنه يعود على كثيراً منهم، وفي ضمير المفعول أنه يعود على الذين كفروا. وقال القفال وجهاً آخر وهو: أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء. والوجه الأول أولى، لأن الحديث إنما هو عن قوله كثيراً منهم، فعود الضمائر على نسق واحد أولى من اختلافها. وجاء جواب لو منفياً بما بغير لام، وهو الأفصح، ودخول اللام عليه قليل نحو قوله:
لو أن بالعلم تعطى ما تعيش به *** لما ظفرت من الدنيا بنقرون
{ولكن كثيراً منهم فاسقون} خص الكثير بالفسق، إذ فيهم قليل قد آمن.
والمخبر عنهم أولاً هو الكثير، والضمائر بعده له، وليس المعنى. ولكنّ كثيراً من ذلك الكثير. ولكنه لما طال أعيد بلفظه، وكان من وضع الظاهر بلفظه موضع الضمير، إذ كان السياق يكون: ما اتخذوهم أولياء، ولكنهم فاسقون. فوضع الظاهر موضع هذالضمير.


القَسَّ بفتح القاف تتبّع الشيء. قال رؤبة:
أصبحن عن قَسّ الأذى غوافلا *** يمشين هوناً حُرَّداً بهاللا
ويقال قَسَّ الأثر تتبعه، وقصه أيضاً. والقسَّ: رئيس النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس، سمي بالمصدر لتتبعه العلم والدّين، وكذلك القِسّيس فِعّيل كالشِّرِّيب، وجمع القِسِّيس بالواو والنون، وجمع أيضاً على قَساوِسَة، قال أمية بن أبي الصلت:
لو كان منقلب كانت قساوسة *** يحييهم الله في أيديهم الزُّبُرُ
قال الفرّاء: هو مثلُ مَهَالبة، كثرت السيئات فأبدلوا إحداهنّ واواً، يعني أن قياسه قساسنة. وزعم ابن عطية أن القسّ بفتح القاف وكسرها، والقِسّيس اسم أعجمي عُرّب.
الطمع قريب من الرجا، يقال منه: طمع يطمع طمعاً وطماعةً وطماعيةً؛ قال الشاعر:
طماعية أن يغفر الذنب غافر ***
واسم الفاعل طمع.
الرّجس اسم لكل ما يستقذر من عمل، يقال: رجس الرجل يرجس رجساً إذا عمل عملاً قبيحاً، وأصله من الرجس، وهو شدّة الصوت بالرّعد؛ قال الراجز:
مِنْ كلّ رجاس يسوق الرّجسا ***
وقال ابن دريد: الرجز الشر والرجز العذاب، والركس العذَرة والنتن، والرجس يقال للأمرين.
الرمح معروف، وجمعه في القِلّة أرماح، وفي الكثرة رماح، وَرَمَحَهُ: طعنه بالرمح، ورجل رامح: أي ذو رمح ولا فعل له من معنى ذي رمح، بل هو كلابن وتامر، وثور رامح: له قرنان، قال ذو الرّمة:
وكائن ذعرناه من مهاة ورامح *** بلاد الورى ليست لها ببلاد
والرّماح: الذي يتخذ الرمح وصنعة الرماحة.
الوبال: سوء العاقبة، ومرعى وبيل: يتأذى به بعد أكله.
البرّ: خلاف البحر. وقال الليث: يستعمل نكرة، يقال: جلست بَرّاً وخرجت برّاً، وقال الأزهري: هي من كلام المولدين، وفي حديث سلمان «إن لكل أمر جوانيّاً وبرانيّاً» كنى بذلك عن السرّ والعلانية، وهو من تغيير النسب.
{لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا}.
قال قتادة نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة مما جاء به عيسى، آمنوا بالرسول، فأثنى الله عليهم، قيل هو النجاشي وأصحابه تلا عليهم جعفر بن أبي طالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع، وقيل هم وفد النجاشي مع جعفر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين بعثهم إلى الرسول عليهم ثياب الصوف، اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من الشام، وهم بحير الراهب وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن، فقرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم يس، فبكوا وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وروي عن مقاتل والكلبي أنهم كانوا أربعين من بني الحارث بن كعب من نجران، واثنين وثمانين من الحبشة، وثمانية وستين من الشام.
وروي عن ابن جبير قريب من هذا، وظاهر اليهود العموم من كان بحضرة الرسول من يهود المدينة وغيرهم، وذلك أنهم مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم وعلى العتوّ والمعاصي، واستشعارهم اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فتحرّرت عداوتهم وكيدهم وحسدهم وخبثهم، وفي الحديث: «ما خلا يهوديان بمسلم إلا همّا بقتله» وفي وصف الله إياهم بأنهم أشدّ عداوة إشعار بصعوبة إجابتهم إلى الحق، ولذلك قلّ إسلام اليهود.
وقيل {اليهود} هنا هم يهود المدينة لأنهم هم الذين مالؤوا المشركين على المسلمين. وعطف {الذين أشركوا} على {اليهود} جعلهم تبعاً لهم في ذلك إذ كان اليهود أشدّ في العداوة، إذ تباينوا هم والمسلمون في الشريعة لا في الجنس، إذ بينهم وشائج متصلة من القرابات والأنساب القريبة فتعطفهم على كل حال الرحم على المسلمين، ولأنهم ليسوا على شريعة من عند الله، فهم أسرع للإيمان من كلّ أحد من اليهود والنصارى، وعطفوا هنا كما عطفوا في قوله: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا} واللام في {لتجدن} هي الملتقى بها القسم المحذوف.
وقال ابن عطية: هي لام الابتداء، وليس بمرضيّ، و{الناس} هنا الكفار، أي ولتجدن أشدّ الكفار عداوة.
{ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} أي هم ألين عريكةً وأقرب ودًّا. ولم يصفهم بالودّ إنما جعلهم أقرب من اليهود والمشركين، وهي أمّة لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكرها عمرو بن العاص في صحيح مسلم، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه ديناً وإيماناً، ويبغضون أهل الفسق، فإذا سالموا فسلمهم صافٍ، وإذا حاربوا فحربهم مدافعة، لأن شرعهم لا يأمرهم بذلك، وحين غلب الروم فارس سُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لغلبة أهل الكتاب لأهل عبادة النار، ولإهلاك العدوّ الأكبر بالعدوّ الأصغر إذ كان مخوفاً على أهل الإسلام، واليهود ليسوا على شيء من أخلاق النصارى، بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يترقب ما يغتالك به ألا ترى إلى ما حكى تعالى عنهم {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل} وفي قوله تعالى: {الذين قالوا إنا نصارى} إشارة إلى أنهم ليسوا متمسكين بحقيقة النصرانية، بل ذلك قول منهم وزعم، وتعلق {للذين آمنوا} الأول بعداوة والثاني بمودة. وقيل هما في موضع النعت ووصف العداوة بالأشد والمودّة بالأقرب دليل على تفاوت الجنسين بالنسبة إلى المؤمنين، فتلك العداوة أشد العداوات وأظهرها، وتلك المودة أقرب وأسهل، وظاهر الآية يدلّ على أنّ النصارى أصلح حالاً من اليهود وأقرب إلى المؤمنين مودة، وعلى هذا الظاهر فسر الآية على من وقفنا على كلامه.
قال بعضهم: وليس على ظاهره وإنما المراد أنهم أكثر أسباب مودة من اليهود، وذلك ذم لهم، فإن من كثرت أسباب مودته كان تركه للمودة أفحش، ولهذا قال أبو بكر الرازي: من الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحاً للنصارى وإخباراً بأنهم خير من اليهود، وليس كذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم يدل عليه ما ذكره في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول، ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أنعم في مقالتي الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فساداً من مقالة اليهود، لأن اليهود تقرّ بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة ببعض ما اعتقدته في الجملة من التوحيد بالتشبيه؛ انتهى كلام أبي بكر الرازي والظاهر ما قاله المفسرون وغيره من أن النصارى على الجملة أصلح حالاً من اليهود، وقد ذكر المفسرون فيما تقدم ما فضل به النصارى على اليهود من كرم الأخلاق، والدخول في الإسلام سريعاً، وليس الكلام وارداً بسبب العقائد، وإنما ورد بسبب الانفعال للمسلمين، وأما قوله لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول ليس كما ذكر، بل صدر الآية يقتضي العموم لأنه قال: {ولتجدن أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} ثم أخبر أن من هذه الطائفة علماء وزهاد ومتواضعين وسريعي استجابة للإسلام وكثيري بكاء عند سماع القرآن، واليهود بخلاف ذلك والوجود يصدق قرب النصارى من المسلمين وبعد اليهود.
{ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون} الإشارة بذلك إلى أقرب المودة عليه، أي منهم علماء وعباد وأنهم قوم فيهم تواضع واستكانة، وليسوا مستكبرين واليهود على خلاف ذلك لم يكن فيهم قط أهل ديارات ولا صوامع وانقطاع عن الدنيا، بل هم معظمون متطاولون لتحصيلها حتى كأنهم لا يؤمنون بآخرة ولذلك لا يرى فيهم زاهد، والرهبان جمع راهب كفارس وفرسان والرهب والرهبة الخشية. وقيل الرهبان مفرد كسلطان وأنشدوا:
لو عاينت رهبان دير في القلل *** تحدر الرهبان تمشي وتزل
ويروي ونزل، والقسيس تقدم شرحه في المفردات. وقال ابن زيد: هو رأس الرهبان. وقيل: العالم. وقيل: رافع الصوت بالقراءة. وقيل: الصديق، وفي هذا التعليل دليل على جلاله العلم، وأنه سبيل إلى الهداية، وعلى حسن عاقبة الانقطاع، وأنه طريق إلى النظر في العاقبة على التواضع، وأنه سبب لتعظيم الموحد إذ يشهد من نفسه ومن كل محدث أنه مفتقر للموجد فيعظم عند مخترع الأشياء البارئ {وإذا ما سمعوا ما أنزل إلى رسول الله ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} هذا وصف برقة القلوب والتأثر بسماع القرآن، والظاهر أن الضمير يعود على قسيسين ورهباناً فيكون عامّاً، ويكون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم كما جرى للنجاشي حيث تلا عليه جعفر سورة مريم إلى قوله {ذلك عيسى ابن مريم} وسورة طه إلى قوله
{وهل أتاك حديث موسى} فبكى وكذلك قومه الذين وفدوا على الرسول حين قرأ عليها {يس} فبكوا.
وقال ابن عطية ما معناه: صدر الآية عام في النصارى و{إذا ما سمعوا} عام في من آمن من القادمين من أرض الحبشة، إذ ليس كل النصارى يفعل ذلك، بل هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعوا ما عنده، فلما رأوه وتلا عليهم القرآن فاضت أعينهم من خشية الله تعالى، انتهى.
وقال السديّ: لما رجعوا إلى النجاشي آمن وهاجر بمن معه فمات في الطريق، فصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له، و{ترى} من رؤية العين وأسند الفيض إلى الأعين وإن كان حقيقة للدموع كما قال:
ففاضت دموع العين مني صبابة ***
إقامة للمسبب مقام السبب، لأن الفيض مسبب عن الامتلاء، فالأصل ترى أعينهم تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض على جوانب الإناء ناشئ عن امتلائه، قال الشاعر:
قوارض تأتيني ويحتقرونها *** وقد يملأ الماء الإناء فيفعم
ويحتمل أنه أسند الفيض إلى الأعين على سبيل المبالغة في البكاء لما كانت تفاض فيها جعلت الفائضة بأنفسها على سبيل المجاز والمبالغة، و{من} في {من الدمع} قال أبو البقاء: فيه وجهان أحدهما: أن مِن لابتداء الغاية أي فيضها من كثرة الدموع والثاني: أن يكون حالاً، والتقدير تفيض مملوءة من الدمع مما عرفوا من الحق، ومعناها من أجل الذي عرفوه، و{من الحق} حال من العائد المحذوف أو حال من ضمير الفاعل في {عرفوا}.
وقيل: {من} في {من الدمع} بمعنى الباء أي بالدمع.
وقال الزمخشري: {من الدمع} من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعاً.
(فإن قلت): أي فرق بين مِن ومِن في قوله: {مما عرفوا من الحق} (قلت): الأول لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وسببه، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا، ويحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم، انتهى.
والجملة من قوله: {وإذا سمعوا} تحتمل الاستئناف، وتحتمل أن تكون معطوفة على خبر إنهم. وقرئ: {ترى أعينهم} على البناء لما لم يسمّ فاعله {يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} المراد بآمنا أنشأنا الإيمان الخاص بهذه الأمة الإسلامية. والشاهدون: قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا ذلك هم شهداء على سائر الأمم، كما قال تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} قال الزمخشري: وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك، انتهى. وقال الطبري: معناه ولو قيل معناه {مع الشاهدين} بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان صواباً.
وقيل: مع الذين يشهدون بالحق.
وقال الزجاج المراد بالشاهدين الأنبياء، والمؤمنون، والكتابة في اللوح المحفوظ. وقيل: معناه أثبتنا من قولهم كتب فلان في الجند أي ثبت، و{يقولون} في موضع نصب على الحال، قاله ابن عطية وأبو البقاء، ولم يبينا ذا الحال ولا العامل فيها، ولا جائز أن يكون حالاً من الضمير في أعينهم لأنه مجرور بالإضافة لا موضع له من رفع ولا نصب إلا على مذهب من ينزل الخبر منزلة المضاف إليه، وهو قول خطأ، وقد بينا ذلك في كتاب منهج السالك من تأليفنا، ولا جائز أن يكون حالاً من ضمير الفاعل في {عرفوا} لأنها تكون قيداً في العرفان وهم قد عرفوا الحق في هذه الحال وفي غيرها، فالأولى أن تكون مستأنفة، أخبر تعالى عنهم بأنهم التبسوا بهذا القول، والمعنى أنهم عرفوا الحق بقلوبهم ونطقت به وأقرت ألسنتهم.
{وما لنا لا نؤمنُ بالله وما جاءنا من الحق} هذا إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه وهو عرفان الحق. قال الزمخشري والتبريزي: وموجب الإيمان هو الطمع في دخولهم مع الصالحين، والظاهر أن قولهم ذلك هو الظاهر لأنفسهم على سبيل المكالمة معها لدفع الوساوس والهواجس، إذ فراق طريقة وسلوك أخرى لم ينشأ عليها مما يصعب ويشق، أو قول بعض من آمن لبعض على سبيل التثبت أيضاً، أو قولهم ذلك على سبيل المحاجة لمن عارضهم من الكفار، لما رجعوا إليهم ولا موهم على الإيمان أي، وما يصدنا عن الإيمان بالله وحده. وقد لاح لنا الصواب وظهر الحق النير.
وروي عن ابن عباس أن اليهود أنكروا عليهم ولاموهم فأجابوهم بذلك و{لا نؤمن} في موضع الحال، وهي المقصودة وفي ذكرها فائدة الكلام، وذلك كما تقول: جاء زيد راكباً جواباً لمن قال: هل جاء زيد ماشياً أو راكباً، والعامل فيها هو متعلق به الجار والمجرور، أي: أي شيء يستقرّ لنا ويجعل في انتفاء الإيمان عنا، وفي مصحف عبد الله وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل علينا ربنا ونطمع وينبغي أن يحمل ذلك على تفسير قوله تعالى {وما جاءنا من الحق} لمخالفته ما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف.
{ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} الأحسن والأسهل أن يكون استئناف إخبار منهم بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم بدخولهم مع الصالحين، فالواو عاطفة جملة على جملة، و{ما لنا لا نؤمن} {لا} عاطفة على نؤمن أو على {لا} نؤمن ولا على أن تكون الواو واو الحال ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه.
وقال الزمخشري: والواو في {ونطمع} واو الحال، والعامل في الحال معنى الفعل العامل في لا نؤمن، ولكن مفيداً بالحال الأولى لأنك لو أزلتها وقلت: وما لنا نطمع لم يكن كلاماً، انتهى.
وماذكره من أن الحالين العامل فيهما واحد وهو ما في اللام من معنى الفعل، كأنه قيل: أي شيء حصل لنا غير مؤمنين طامعين ليس بجيد، لأن الأصح أنه لا يجوز أن يقضي العامل حالين لذي حال واحد لا بحرف عطف إلا أفعل التفضيل، فالأصح أنه يجوز فيه ذلك، وذوا الحال هنا واحد وهو الضمير المجرور بلام لنا، ولأنه أيضاً تكون الواو دخلت على المضارع، ولا تدخل واو الحال على المضارع إلا بتأويل، فيحتاج أن يقدر: ونحن نطمع.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون {ونطمع} حالاً من {لا نؤمن} على أنهم أنكروا على أنفسهم لأنهم لا يوحدون الله، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين، انتهى.
وهذا ليس بجيد لأن فيه دخول واو الحال على المضارع ويحتاج إلى تأويل.
وقال الزمخشري: وأن يكون معطوفاً على {لا نؤمن} على معنى وما لنا لا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين أو على معنى: وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين، انتهى.
ويظهر لي وجه غير ما ذكروه وهو أن يكون معطوفاً على نؤمن على أنه منفي كنفي نؤمن، التقدير: وما لنا لا نؤمن ولا نطمع فيكون في ذلك إنكار لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين: الإيمان والطمع في الدخول مع الصالحين و{مع} على بابها من المعية، وقيل: بمعنى في والصالحون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس أو الرسول وأصحابه، قاله ابن زيد، أو المهاجرون الأولون، قاله مقاتل. وقيل: التقدير أن يدخلنا الجنة {فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين} ظاهره أن الإثابة بما ذكر مترتبة على مجرد القول، ولا بد أن يقترن بالقول الاعتقاد ويبين أنه مقترن به أنه قال: {مما عرفوا من الحق} فوصفهم بالمعرفة، فدل على اقتران القول بالعلم، وقال: {وذلك جزاء المحسنين} فإما أن يكون من وضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على هذا الوصف بهم، وأنهم أثيبوا لقيام هذا الوصف بهم، وهو رتبة الإحسان، وهي التي فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ولا إخلاص ولا علم أرفع من هذه الرتبة، وإما أن يكون أريد به العموم فيكونون قد اندرجوا في المحسنين على أن هذه الإثابة لم تترتب على مجرد القول اللفظي، ولذلك فسره الزمخشري بقوله بما قالوا بما تكلموا به من اعتقاد وإخلاص من قولك: هذا قول فلان أي اعتقاده وما يذهب إليه انتهى.
وفسروا هذا القول بقولهم: {وما لنا لا نؤمن بالله} والذي يظهر أنه عنى به قولهم {يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} لأنه هو الصريح في إيمانهم، وأما قوله: {لا نؤمن بالله} فليس فيه تصريح بإيمانهم، وإنما هو إنكار على انتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه، فلا تترتب عليه الإثابة.
وقرأ الحسن {فآتاهم} من الإيتاء بمعنى الإعطاء لا من الإثابة، والإثابة أبلغ من الإعطاء، لأنه يلزم أن يكون عن عمل بخلاف الإعطاء، فإنه لا يلزم أن يكون عن عمل ولذلك جاء أخيراً {وذلك جزاء المحسنين} نبه على أن تلك الإثابة هي جزاء، والجزاء لا يكون إلا عن عمل {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} اندرج في {الذين كفروا وكذبوا} اليهود والنصارى وغيرهم لما ذكر ما للمؤمن ذكر ما أعد للكافر. {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} ذكروا سبب نزولها في قصة طويلة ملخصها أن جماعة من الصحابة عزموا على التقشف المفرط والعبادة المفرطة الدائمة من الصيام الدائم وترك إتيان النساء واللحم والودك والطيب ولبس المسوح والسياحة في الأرض وجبّ المذاكير، فنهاهم الرسول عن ذلك ونزلت.
وقيل: حرم عبد الله بن رواحة عشاه ليلة نزل به ضيف لكون امرأته انتظرته ولم تبادر إلى إطعام ضيفه، فحرمته هي إن لم يذقه، فحرمه الضيف، فقال عبد الله: قربي طعامك، كلوا بسم الله، فأكلوا جميعاً وأخبر الرسول بذلك، فقال «أحسنت». وقيل في سبب نزولها غير ذلك.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهباناً وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ومستلذاتها أوهم ذلك ترغيب المسلمين في مثل ذلك التقشف والتبتل بيّن تعالى أنّ الإسلام لا رهبانية فيه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنالُ الطيب، فمن رغب عن سنتي فليس مني». وأكل صلى الله عليه وسلم الدجاج والفالوذج وكان يعجبه الحلوى والعسل والطيبات هنا المستلذات من الحلال ومعنى لا تحرّموها لا تمنعوا أنفسكم منها لمنع التحريم ولا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً، وهذا هو المناسب لسبب النزول.
وقيل المعنى: لا تحرموا ما تريدون تحصيله لأنفسكم من الحلال بطريق غير مشروع كالغصب والربا والسرقة، بل توصلوا بطريق مشروع من ابتياع واتهاب وغيرهما.
وقيل معناه لا تعتقدوا تحريم ما أحلّه الله لكم.
وقيل: لا تحرّموا على نفسكم بالفتوى.
وقيل لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين لقوله: {لم تحرم ما أحل الله لك} وقيل: خلط المغصوب بالمملوك خلطاً لا يتميز منه فيحرم الجميع ويكون ذلك سبباً لتحريم ما كان حلالاً {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} هذا نهي عن الاعتداء فيدخل فيه جميع أنواع الاعتداء ولا سيما ما نزلت الآية بسببه.
قال الحسن: لا تجاوزوا ما حدّ لكم من الحلال إلى الحرام، واتبعه الزمخشري فقال: ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وإبراهيم: لا تعتدوا بالخنا وتحريم النساء، وقال عكرمة أيضاً: لا تسيروا بغير سيرة الإسلام، وقال السدي وعكرمة أيضاً: هو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله، فهو تأكيد لقوله {لا تحرموا} وقيل: ولا تعتدوا بالإسراف في تناول الطيبات كقوله: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} {وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً} تقدم تفسير مثلها في قوله: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} {واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} تأكيد للوصية بما أمر به وزاده تأكيداً بقوله: {الذي أنتم به مؤمنون} لأن الإيمان به يحمل على التقوى في امتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه.
{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الايمان} تقدم الكلام في تفسير نظير هذه الجملة، ومعنى {عقدتم} وثقتم بالقصد والنية، وقرأ الحرميان وأبو عمر بتشديد القاف، وقرأ الأخوان وأبو بكر بتخفيفها، وابن ذكوان بألف بين العين والقاف، وقرأ الأعمش بما عقدت الأيمان جعل الفعل للأيمان فالتشديد إما للتكثير بالنسة إلى الجمع، وأما لكونه بمعنى المجرد نحو قدّر وقدر، والتخفيف هو الأصل، وبالألف بمعنى المجرد نحو جاوزت الشيء وجزته، وقاطعته وقطعته، أي هجرته. وقال أبو علي الفارسي: عاقدتم يحتمل أمرين أحدهما أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص، انتهى، وليس مثله لأنك لا تقول طرقت النعل ولا عقبت اللص بغير ألف، وهذا تقول فيه عاقدت اليمين وعقدت ياليمين، وقال الحطيئة:
قوم إذا عاقدوا عقداً لجارهم ***
فجعله بمعنى المجرد وهو الظاهر كما ذكرناه.
قال أبو علي: والأحرى أن يراد به فاعلت التي تقتضي فاعلين كأن المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان عداه بعلى لما كان بمعنى عاهد، قال: بما عاهد عليه الله كما عدى {ناديتم إلى الصلاة} بإلى، وبابها أن تقول ناديت زيداً {وناديناه من جانب الطور الأيمن} لما كانت بمعنى دعوت إلى كذا قال مما دعا إلى الله ثم اتسع فحذف الجار ونقل الفعل إلى المفعول، ثم المضمر العائد من الصلة إلى الموصول، إذ صار بما عاقدتموه الأيمان، كما حذف من قوله {فاصدع بما تؤمر} انتهى، وجعل عاقد لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظاً والاشتراك فيهما معنى بعيد إذ يصير المعنى أن اليمين عاقدته كما عاقدها إذ نسب ذلك إليه وهو عقدها هو على سبيل الحقيقة، ونسبة ذلك إلى اليمين هو على سبيل المجاز لأنها لم تعقده بل هو الذي عقدها. وأما تقديره بما عاقدتم عليه وحذف حرف الجر، ثم الضمير على التدريج الذي ذكره فهو أيضاً بعيد، وليس تنظيره ذلك بقوله {فاصدع بما تؤمر} بسديد لأن أمر يتعدى بحرف الجر تارة وبنفسه تارة إلى المفعول الثاني وإن كان أصله الحذف تقول أمرتُ زيداً الخير، وأمرته بالخير، ولأنه لا يتعين في {فاصدع بما تؤمر} أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، بل يظهر أنها مصدرية فلا يحتاج إلى عائد، وكذلك هنا الأولى أن تكون ما مصدرية، ويقوي ذلك ويحسنه المقابلة بعقد اليمين للمصدر الذي هو باللغو في أيمانكم، لأن اللغو مصدر، فالأولى مقابلته بالمصدر لا بالموصول.
وقال الزمخشري: والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة، لأنه كان معلوماً عندهم أو بنكث ما عقدتم، فحذف المضاف انتهى؛ واليمين المنعقدة بالله أو بأسمائه أو صفاته.
وقال الإمام أحمد: إذا حلف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه لأنه حلف بما لم يتم الإيمان إلا به، وفي بعض الصفات تفصيل. وخلاف ذكر في الفقه.
{فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم} الكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها، والضمير في «فكفارته» عائد على ما إن كانت موصولة اسمية، وهو على حذف مضاف كما تقدم، وإن كانت مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من المعنى وهو إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح لكن يقتضيه المعنى، ومساكين أعمّ من أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً أو من الصنفين، والظاهر تعداد الأشخاص، فلو أطعم مسكيناً واحداً لكفارة عشرة أيام لم يجزه، وبه قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة يجزئ، وتعرّضت الآية لجنس ما يطعم منه وهو من أوسط ما تطعمون ولم تتعرض لمقدار ما يطعم كل واحد هذا الظاهر، وقد رأى مالك وجماعة أن هذا التوسط هو في القدر، وبه قال عمر وعليّ وابن عباس ومجاهد، ورأى جماعة أنه في الصنف، وبه قال ابن عمر والأسود وعبيدة والحسن وابن سيرين، وقال ابن عطية: الوجه أن يطعم بلفظ الوسط القدر والصنف؛ انتهى.
وروي عن زيد بن ثابت وابن عباس والحسن وعطاء وابن المسيب مدّ لكلّ مسكين بمدّ الرسول، وبه قال مالك والشافعي، وروي عن عمر وعليّ وعائشة نصف صاع من برّ أو صاع من تمر، وبه قال أبو حنيفة، والظاهر أنه لا يجزئ إلا الإطعام بما فيه كفاية وقتاً واحداً يسدّ به الجوعة، فإن غداهم وعشاهم أجزأه، وبه قال عليّ ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك، وقال ابن جبير والحكم والشافعي: من شرط صحة الكفارة تمليك الطعام للفقراء، فإن غدّاهم وعشاهم لم يجزه، والظاهر أنه لا يشترط الإدام، وقال ابن عمر: أوسط ما يطعم الخبز والتمر والخبز والزبيب وخير ما نطعم أهلينا الخبز واللحم وعن غيره الخبز والسمن، وأحسنه التمر مع الخبز، وروي عن ابن مسعود مثله، وقال ابن حبيب: لا يجزئ الخبز قفاراً ولكن بإدام زيت أو لبن أو لحم ونحوه، والظاهر أن المراعي ما يطعم أهليه الذين يختصون به، أي من أوسط ما يطعم كل شخص شخص أهله، وقيل المراعي عيش البلد، فالمعنى من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة من مدينة أو صقع، و{من أوسط} في موضع مفعول ثان لإطعام، والأول هو {عشرة مساكين} أي طعاماً من أوسط والعائد على {ما} من {تطعمون} في موضع محذوف أي تطعمونه وقرأ الجمهور {أهليكم} وجمع أهل بالواو والنون شاذّ في القياس.
وقرأ جعفر الصادق {أهاليكم} جمع تكسير وبسكون الياء، قال ابن جني: أهال بمنزلة ليال، واحدها أهللة وليلاة، والعرب تقول: أهل وأهلة ومنه قوله:
وأهلة ودّ قد سريت بودّهم ***
وقال الزمخشري والأهالي اسم جمع لأهل كالليالي في جمع ليلة والأراضي في جمع أرض، وأما تسكين الياء في أهاليكم فهو كثير في الضرورة، وقيل في السعة كما قال زهير:
يطيع العوالي ركبت كل لهدم ***
شبهت الياء بالألف فقدرت فيها جميع الحركات.
{أو كسوتهم} هذا


{جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتله ما شرع وذكر تعظيم الكعبة بقوله {هدياً بالغ الكعبة}، فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قياماً للناس أي ركز في قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى أحد، وصارت وازعة لهم من الأذى وهم في الجاهلية الجهلاء لا يرجون جنة ولا يخافون ناراً إذ لم يكن لهم ملك يمنعهم من أذى بعضهم فقامت لهم حرمة الكعبة مقام حرمة الملك هذا مع تنافسهم وتحاسدهم ومعاداتهم وأخذهم بالثأر، ولذلك جعل الثلاثة المذكورة بعد الكعبة قياماً للناس فكانوا لا يهيجون أحداً في الشهر الحرام ولا من ساق الهدي لأنه لا يعلم أنه لم يجيء لحرب ولا من خرج يريد البيت بحج أو عمرة فتقلد من لحي الشجر ولا من قضى نسكه فتقلد من شجر الحرم، ولما بعثت قريش زمن الحديبية إلى المؤمنين الحلس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا رجل يعظم الحرمة فألقوه بالبدن مشعرة» فلما رآها الحلس عظم عليه ذلك وقال ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالة قريش، وجعل هنا بمعنى صيَّر. وقيل جعل بمعنى بين وينبغي أن يحمل هذا على تفسير المعنى إذ لم ينقل جعل مرادفة لهذا المعنى لكنه من حيث التصيير يلزم منه التبيين والحكم، ولما كان لفظ الكعبة قد أطلقه بعض العرب على غير البيت الحرام كالبيت الذي كان في خثعم يسمى كعبة اليمانية، بين تعالى أن المراد هنا بالكعبة البيت الحرام، وهو بدل من الكعبة أو عطف بيان، وقال الزمخشري: البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفة كذلك انتهى. وليس كما ذكر لأنهم ذكروا في شرط عطف البيان الجمود فإذا كان شرطه أن يكون جامداً. لم يكن فيه إشعار بمدح إذ ليس مشتقاً وإنما يشعر بالمدح المشتق إلا أن يقال أنه لما وصف عطف البيان بقوله الحرام اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلك والقيام مصدر كالصيام ويقال هذا قيام له وقوام له وكأنهم ذهبوا في قيام إلى أنه ليس مصدراً بل هو اسم كالسواك فلذلك صحت الواو قال: قوام دنيا وقيام دين. إذا لحقت تاء التأنيث لزمت التاء قالوا القيامة واختلفوا في تفسير قوله {قياماً للناس} فقيل باتساع الرزق عليهم إذ جعلها تعالى مقصودة من جميع الآفاق وكانت مكة لا زرع ولا ضرع، وقيل بامتناع الإغارة في الحرم، وقيل بسبب صيرورتهم أهل الله فكل أحد يتقرب إليهم، وقيل بما يقام فيها من المناسك وفعل العبادات، وروي عن ابن عباس، وقيل: يأمن من توجه إليها وروي عنه، وقيل بعدم أذى من أخرجوه من جر جريرة ولجأ إليها، وقيل ببقاء الدين ما حجت واستقبلت، وقال عطاء لو تركوه عاماً واحداً لم ينظروا ولم يؤخروا.
وقال أبو عبد الله الرازي لا يبعد حمله على جميع الوجوه، لأن قوام المعيشة بكثرة المنافع وبدفع المضار وبحصول الجاه والرئاسة وبحصول الدين والكعبة سبب لحصول هذه الأقسام انتهى.
وقرأ ابن عامر قيماً بغير ألف فإن كان أصله قياماً بالألف وحذفت فقيل حكم هذا أن يجيء في الشعر وإن كان مصدراً على فعل فكان قياسه أن تصح فيه الواو كعوض، وقرأ الجحدري قيماً بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة وهو كسيد اسم يدل على ثبوت الوصف من غير تقييد بزمان ولفظ الناس عام، فقيل المراد العموم، وقيل المراد العرب، قال أبو عبد الله بن أبي الفضل وحس هذا المجاز أن أهل كل بلدة إذا قالوا الناس فعلوا كذا لا يريدون بذلك إلا أهل بلدتهم فلذلك خوطبوا على وفق عادتهم انتهى. والشهر الحرام ظاهره الإفراد، فقيل هو ذو الحجة وحده وبه بدأ الزمخشري قال لأن لاختصاصه من بين الأشهر المحرمة برسم الحج شأناً قد عرفه الله انتهى، وقيل المراد الجنس فيشمل الأشهر الحرم الأربعة الثلاثة بإجماع من العرب وشهر مضر وهو رجب كان كثير من العرب لا يراه ولذلك يسمى شهر الله إذ كان تعالى قد ألحقه في الحرمة بالثلاثة فنسبه وسدده، والمعنى شهر آل الله وهو شهر قريش وله يقول عوف بن الأحوص:
وشهر بني أمية والهدايا *** إذا سيقت مصرحها الدماء
ولما كانت الكعبة موضعاً مخصوصاً لا يصل إليه كل خائف جعل الله الأشهر الحرم والهدي والقلائد قياماً للناس كالكعبة.
{ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض} الظاهر أن الإشارة هي للمصدر المفهوم أي ذلك الجعل لهذه الأشياء قياماً للناس وأمناً لهم ليعلموا أنه تعالى يعلم تفاصيل الأمور الكائنة في السموات والأرض ومصالحكم في دنياكم ودينكم فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم، وأجاز الزمخشري أن تكون الإشارة إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره، وقال الزجاج الإشارة إلى ما نبأ به تعالى من الأخبار بالمغيبات والكشف عن الأسرار مثل قوله {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك} ومثل إخباره بتحريفهم الكتب أي ذلك الغيب الذي أنبأكم به على لسان رسوله يدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض. وقيل الإشارة إلى صرف قلوب الناس إلى مكة في الأشهر المعلومة فيعيش أهلها معهم ولولا ذلك ماتوا جوعاً لعلمه بما في مصالحهم وليستدلوا على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض.
{وأن الله بكل شيء عليم} هذا عموم تندرج فيه الكليات والجزئيات كقوله تعالى {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها}، {اعلموا أن الله شديد العقاب} هذا تهديد إذ أخبر أن عقابه شديد لمن انتهك حرمته.
{وأن الله غفور رحيم} وهذا توجيه بالغفران والرحمة لمن حافظ على طاعة الله أو تاب عن معاصيه.
{ما على الرسول إلا البلاغ} لما تقدم الترغيب والترهيب أخبر تعالى أن كلف رسوله بالتبليغ وهو توصيل الأحكام إلى أمته وهذا فيه تشديد على إيجاب القيام بما أمر به تعالى، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليه الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط. قال ابن عطية هي إخبار للمؤمنين ولا يتصور أن يقال هي أنه موادعة منسوخة بآيات القتال بل هذه حال من آمن بهذا وشهد شهادة الحق فإنه عصم من الرسول ماله ودمه فليس على الرسول في جهته أكثر من التبليغ. انتهى. وذكر بعض المفسرين الخلاف فيها أهي محكمة أم منسوخة بآية السيف والرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل يجوز أن يكون اسم جنس والمعنى ما على كل من أرسل إلا البلاغ والبلاغ والبلوغ مصدران لبلغ وإذا كان مصدر البلغ فبلاغ الشرائع مستلزم لتبليغ من أرسل بها فعبر باللازم عن الملزوم ويحتمل أن يكون مصدر البلغ المشدد على حذف الزوائد فمعنى البلاغ التبليغ.
{والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} جملة فيها تهديد إذ أخبر تعالى أنه مطلع على حال العبد ظاهراً وباطناً فهو مجازيه على ذلك ثواباً أو عقاباً، ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى ألزم رسوله التبليغ للشريعة وألزمكم أنتم تبليغها فهو العالم بما تبدون منها وما تكتمونه فيجازيكم على ذلك وكان ذلك خطاباً لأمته إذا كان الإبداء والكتم يمكن صدورهما منهم بخلاف الرسول فإنه يستحيل عليه أن يكتم شيئاً من شرائع الله تعالى.
{قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} روى جابر أن رجلاً قال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي، فهل ينفعني ذلك المال إذا عملته في طاعة الله تعالى؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبل إلا الطيب» فنزلت هذه الآية تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما حذر عن المعصية ورغب في التوبة بقوله: {اعلموا أن الله شديد العقاب} الآية. وأتبعه في التكليف بقوله: {ما على الرسول إلا البلاغ} ثم بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله: {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية. فقال هل يستوي الخبيث والطيب، الآية أو يقال لما بين أن عقابه شديد لمن عصى وأنه غفور رحيم لمن أطاع بين أنه لا يستوي المطيع والعاصي وإن كان من العصاة والكفار كثرة فلا يمنعه كثرتهم من عقابه، والظاهر أن الخبيث والطيب عامان فيندرج تحتهما حلال المال وحرامه وصالح العمل وفاسده وجيد الناس ورديئهم وصحيح العقائد وفاسدها والخبيث من هذا كله لا يصلح ولا يحب ولا يحسن له عاقبة والطيب ولو قل نافع جيد العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته} الآية. والخبيث فاسد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب خلاف ذلك وقد خصص بعض المتقدمين هنا الخبيث والطيب ببعض ما يقتضيه عموم اللفظ، فقال ابن عباس والحسن هو الحلال والحرام، وقال السدي هو المؤمن والكافر وذكر الماوردي قولاً أنه المطيع والعاصي وقولاً آخر أنه الجيد والرديء، وقيل: الطيب المعرفة والطاعة والخبيث الجهل والمعصية والأحسن حمل هذه الأقوال على أنها تمثيل للطيب والخبيث لأقصر اللفظ عليها، وقوله: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} ظاهره أنه من جملة المأمور بقوله ووجه كاف الخطاب في قوله {ولو أعجبك} أن المعنى ولو أعجبك أيها السامع أو أيها المخاطب وأما أن لا يكون من جملة ما أمر بقوله ويكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر بعضهم أنه يحتمل ذلك والأولى القول الأول أو يحمل على أنه خطاب له في الظاهر والمراد غيره.
{فاتقوا الله يا اولي الألباب لعلكم تفلحون} أي اتقوه في إيثار الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر، قال الزمخشري ومن حق هذه الآية أن يكفح بها المجبرة إذا افتخروا بالكثرة. قال شاعرهم:
وكاثر بسعدٍ إنّ سعداً كثيرة *** ولا ترجُ من سعدٍ وفاء ولا نصرا
وقال آخر:
لا يدهمنك من دهمائهم عدد *** فإنّ جلَّهم كلَّهم بقرُ
وهو على عادته من تسمية أهل السنة مجبرة وذمهم وخص تعالى الخطاب والنداء بأولي الألباب لأنهم المتقدمون في تمييز الطيب والخبيث فلا ينبغي لهم إهمال ذلك. قال ابن عطية وكأن الإشارة إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالجبلة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد انتهى.

1 | 2 | 3 | 4 | 5